ما هو مفهوم العمارة من منظور الاقتصاد في الاسلام؟

إن التنمية في النظام الاقتصادي الإسلامي فرض وضرورة، حيث إنها تعني تحقيق الإنسان من خلال عمله درجات متزايدة من السيطرة على الموارد المتاحة في الكون التي سخرها الله سبحانه وتعالى لخدمته، وذلك لتحقيق تمام الكفاية وهو ما يتناسب مع متوسط المعيشة السائد في المجتمع المسلم، ويعني ذلك تحقيق مستويات متزايدة من الدخل، ومن عناصر القدرة الاقتصادية، إلى جانب مشاركة الدولة في إشباع الحاجات الأساسية لغير القادرين وتوفيرها للاستقرار والأمن الداخلي والخارجي.

كما أنه في الإسلام تتخذ التنمية مفاهيم سامية ترتبط بالدين ارتباطًا وثيقًا. بل إن الإسلام ينظر إلى التنمية نظرة شمولية تجمع بين تطوير كل من ((الأرض)) أي الموارد الطبيعية، والإنسان.
لذلك اهتم الإسلام بها، واعتبرها عبادة لله تعالى، وجعلها من  واجبات الاستخلاف، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾.
بل لقد بلغ حرص الإسلام على التنمية الاقتصادية وتعمير الدنيا أن قال الرسول r: ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر)) رواه البخاري.
ولقد شغلت التنمية المقام الأول من فكر المسلمين الأوائل، وإنما تحت لفظ ((العمارة)) وهو اصطلاح يشمل مضمون التنمية الشاملة يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه مخاطبًا واليه على مصر الأشتر النخعي: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد)..
أقول لقد استخدم المسلمون الأوائل مصطلح ((العمارة)) للدلالة على ((التنمية))، ومن أولئك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو يوسف - رحمه الله -، إضافة إلى العلماء الآخرين من أمثال: ابن خلدون - رحمه الله -، والدلجي - رحمه الله -، وأبو الفضل جعفر الدمشقي - رحمه الله -، وغيرهم.
وهم مسبوقون بالقرآن الكريم والسنة المطهرة النبوية، إذ وردت في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾.  
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أعمر أرضًا ميتة، فهو أحق بها)) صحيح البخاري.
والشواهد في ذلك كثيرة.
إذن، لفظ ((العمارة)) يحمل في مضمونه التنمية الشاملة، والنهوض بالمجتمع في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وهذا جوهر ما تسعى إليه التنمية الاقتصادية كما يعرفها الاقتصاديون المعاصرون.   

مفهوم العمارة

يهتم الإسلام اهتمامًا عميقًا بالتنمية الاقتصادية، غير أنه يعالجها على أنها جزء من كل: هو التنمية الإنسانية. فأول وظيفة من وظائف الإسلام هي توجيه التنمية الإنسانية في المسالك الصحيحة. لهذا كان التركيز حتى في القطاع الاقتصادي على التنمية الإنسانية بحيث تبقى التنمية الاقتصادية عنصرًا مكملاً وجزءًا لا يتجزأ من التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للجماعة الإنسانية.
ويمكن في ضوء المبادئ الأساسية للإسلام أن نستخلص مفهوم الإسلام للتنمية الذي تتضح ملامحه في النقاط الرئيسية التالية.  
( أ ) المفهوم الإسلامي للتنمية له خاصية الشمول، إذ يتضمن المظاهر الخلقية والروحية والمادية في آن معًا. وبهذا تصبح التنمية نشاطًا هادفًا ومتجهًا إلى الخُلق، ومنصبًا على البلوغ بالرفاه البشري حدَّه الأمثل، بكل هذه الأبعاد. فالمعنوي والمادي، والاقتصادي والاجتماعي، والروحي والجسمي لا ينفصل أحدها عن الآخر. والرفاه الذي يبحث عنه الإسلام إنما يمتد إلى الحياة الآخرة، وليس ثمة تنازع بينهما. وهذا البعد مفقود في المفهوم المعاصر للتنمية.
(ب) الإنسان هو مركز الجهد التنموي، وهو قلب عملية التنمية. فالتنمية تعني تنمية الإنسان وتنمية بيئته المادية والاجتماعية والثقافية. فهدف التنمية أن يكون الإنسان متحررًا في عقله، وأن يكون جسمه صحيحًا وعرضه مصونًا وماله محفوظًا، وقبل كل هذا دينه وعقيدته. فالإسلام يطالب بتنمية كل هذه الجوانب الضرورية بالنسبة للإنسان، لا يركز على جانب ويهمل جانبًا.
(جـ) التنمية نشاط متعدد الأبعاد، وهو في الإسلام كذلك وأكثر. ولما كانت الجهود يجب أن تُبذل في آن معًا في عدد من الاتجاهات، فإن منهجية عزل عنصر رئيس والتركيز المطلق على ذلك في الغالب، لا يمكن الدفاع عنها من الناحية النظرية. فالإسلام يسعى إلى إقامة التوازن بين مختلف العناصر والقوى. وهذا ما يتزايد إدراك علماء التنمية الاقتصادية له. لذا نؤكد على (أن علينا أن نتعلم من تجارب البشرية في التنمية أن تُرى التنمية على أنها تفاعل منظم لعدد كبير من العوامل).  
( د ) التنمية الاقتصادية تستلزم عددًا من المتغيرات، الكمية والنوعية فالانهماك في الكمي، وهو مبرَّر وضروري في حدود ما يستحق، قد أدى للأسف إلى إهمال الجوانب النوعية، في التنمية خصوصًا، وفي الحياة عمومًا. ويريد الإسلام أن يصحح هذا الخلل ويعيد التوازن.
(هـ) من المبادئ الفعّالة في الحياة الاجتماعية أكّد الإسلام تأكيدًا خاصًا على مبدأين:
الأول: الاستخدام الأمثل للموارد التي أنعم الله بها على الإنسان وبيئته الطبيعية.
الثاني: الاستخدام العادل وتوزيع جميع العلاقات الإنسانية وتحسينها على أساس الحق والعدل.
وعليه يمكن أن نقول: إن التنمية الاقتصادية في ظل الإسلام تستلزم مشاركة الإنسان العميقة والواسعة وتتجه إلى تحقيق الحد الأقصى من الرفاه الإنساني، في كل مظاهره، وإلى بناء قوة الأمة، لكي تقوم بدورها في العالم، دور خليفة الله في الأرض، ودور ((الأمة الوسط)). إن التنمية تعني التنمية الأدبية والروحية والمادية للفرد والمجتمع، بما يؤدي إلى أعظم رفاه اجتماعي اقتصادي، وإلى الغاية من خير البشرية.
وفي هذا البحث سوف نعرض - وباختصار - لمصطلح العمارة أي ((التنمية)) في الفكر الإسلامي.  
1- العمارة في اللغة:
لم يعرف الفكر الإسلامي تعبير التنمية الاقتصادية. غير أنه حوى من المصطلحات ما يحتوي على مضمون مصطلح التنمية، وكان أقرب تعبير عن العملية التنموية. ومن هذه المصطلحات: التمكين - الإحياء - العمارة.
وسنقتصر على مصطلح العمارة، موضوع البحث.
تأتي العمارة في اللغة بمعانٍ عدة، منها:
(1) العمارة: نقيض الخراب.
(2) العمارة: البُنيان.
(3) العمارة: البناء المؤلف من طبقات وشقق.
(4) العمارة: عمارة الأرض، إحياؤها بالبناء أو الغرس أو الزرع..
جاء في ((معجم مقاييس اللغة)): العين والميم والراء أصلان صحيحان: أحدهما يَدُّل على بقاء وامتداد زمان.
والآخر: على شيء يعلو، من صوت أو غيره.
فالأول: العُمْر وهو الحياة وهو العَمْر أيضًا.
ومن الباب: عمارة الأرض، يقال: عَمَّرَ الناس الأرض عمارة وهم يَعْمرُونها وهي عامرة معمورة.. والاسم والمصدر: العمران. واستعمر  الله تعالى الناس في الأرض ليعمروها، والباب كله يؤول إلى هذا..).
والعمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة. وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة. قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].).
إذا تبين هذا، فإن مصطلح العمارة يشمل عمارة الأرض، وعمارة البلاد أو بعبارة أخرى، يشمل عمارة الأرض، ما يسمى بالتنمية الاقتصادية، وعمارة البلاد، ما يسمى بالتنمية الشاملة.
إذ تُعرَّف التنمية الشاملة بأنها: (ذلك التطوير البنياني أو التغيير البنياني للمجتمع بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية (شاملة الفكرية) والتنظيمية من أجل توفير الحياة الكريمة لجميع أفراد المجتمع).
وهذا التعريف، يرتكز على عنصرين أساسيين هما:
(1) تغيير بنياني.
(2) هدف التنمية هو توفير الحياة الكريمة.  
العمارة في القرآن الكريم والسنة النبوية:
في القرآن:
قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].
يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (قال ابن العربي: قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب).
وقال الجصاص: (وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة، والغراس والأبنية).
كما إنه في قوله: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أمرٌ بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة، والمسجد الجامع.. ومندوب كعمارة المساجد، ومباح كعمارة المنازل.. وحرام كعمارة الحانات وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام.
وفي السنة:
عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي r قال: ((من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق)). قال عروة: قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته.  
قال ابن حجر في ((فتح الباري)): (الصواب ((عمر)) ثلاثيًا. قال تعالى: ﴿وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ إلا أن يريد أنه جعل فيها عمارًا.. والمراد: من أعمر أرضًا بالإحياء فهو أحق به من غيره.. وحذف متعلق ((أحق)) للعلم به).
وقال المناوي - رحمه الله - في حديث: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها)).
والحاصل أن الحديث مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار، لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق في الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل في الدنيا)).
هذه هي العمارة في اللغة، وفي القرآن الكريم، وفي السنة النبوية.. فما أسباب استخدامي لهذا المصطلح بديلاً عن التنمية؟
تبرير استخدام مصطلح العمارة بديلاً عن التنمية:
جاء اختياري واستخدامي لمصطلح العمارة بديلاً عن التنمية، لأسباب، منها:
( أ ) التخلص من الانتقادات الموجهة لمصطلح التنمية الاقتصادية  التي منها:
- البعد الواحد في المفهوم وهو البعد الاقتصادي.
- البعد الواحد في الهدف وهو اللحوق بركاب الغرب.
- البعد الواحد في الوسيلة وهو رأس المال.
إضافة إلى البعد الآني في تفسير التخلف، والبعد الواحد في علاجه، والبعد الكمي من خلال التركيز على القياس وعلى مستويات الاستثمار..).
(ب) ما يتميز به مصطلح العمارة من مميزات، التي منها:
- أنه مصطلح إسلامي، ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية.
- أنه لا يقتصر على النواحي الاقتصادية فقط.
- أنه يهدف إلى إقامة مجتمع المتقين بتوفير حد الكفاية لهم.
- أن وسيلته الإنسان، خليفة الله في أرضه.
إضافة إلى سعة أُفقه وبُعده الزمني (الدنيا والآخرة).
(جـ) إحياء هذا المصطلح، ومحاولة أن يكون هو المتداول والموجود في كتابات التنمية وفي أبحاثها ودراستها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قد يهمك أيضاً :