لكن إذا كانت هذه العوائق – سواء التي تتعلق بالموضوع أو الذات – تحول دون تطبيق المنهج التجريبي في الظاهرة أو الحادثة التاريخية بشكل ، فإن هذا لا يعني البتة أنه لا يمكن دراستها دراسة علمية لجعل التاريخ علما قائما بذاته ، فإذا كان الاستقراء التجريبي هو الأنسب لدراسة علوم المادة فإن العوائق الإبستيمولوجية التي صادفته أدت إلى استحداث منهج يسمح بدراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية ، ويعتبر ابن خلدون السباق إلى رسم منهج واضح المعالم يمكننا من دراسة الحادثة التاريخية ويفسرها أي أنه لم يكتف بمجرد نقلها والإشارة إلى مكان حدوثها من عدمه ، بل تجاوز ذلك إلى تفسيرها وربطها بعللها أسبابها ، وينقسم هذا المنهج التاريخي إلى المراحل التالية :
1: جمع المصادر: والتي يمكن أن نميز فيها نوعين من المصادر التاريخية " إرادية وغير إرادية " فالمصادر الإرادية تتمثل في تلك الأثار والوثائق التي أنجزها الإنسان واحتفظ بها قصد تأريخ الحادثة وإخبار الآخرين بها كالمجلات والصحف ، ورسائل القادة التاريخية ، ونصوص الاتفاقيات والروايات والمعاهدات المختلفة ، والقصص الواردة في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ... إلخ .
المصادر الغير إرادية : تتمثل في مختلف المصادر والآثار التي تركها الإنسان عن غير قصد ، والتي فرضتها الحاجة إليها ، كالحصن والأبراج والأسلحة التي تم تشييدها من أجل الحماية والدفاع عن النفس أو الدولة والمملكة ، إضافة إلى النقود مثلا التي صنعت لتسهيل التعامل والتبادل التجاري .
هذه العملية على حد تعبير ابن خلدون مشروطة بمعرفة طبائع العمران، فلا يصح مثلا أن يتحدث باحث على ما يصطلح عليه اليوم " حرب المدن أو الشوارع " في سياق حديثه عن حروب ومعارك تنتمي إلى العصور الوسطى أو القديمة ، بمعنى أن معرفة طبائع العمران طريق إلى معرفة إمكانية حدوث الواقعة من عدمها يقول ابن خلدون في حديثه عن الكيفية التي يتعامل بها مع الخبر :" ... إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم والحيد عن جادة الصدق ..."
2 - مرحلة النقد :
بعد جمع المصادر يجب على المؤرخ تفحصها ونقد الوثائق كلها ، وعليه أن يعتبر "كل وثيقة مدانة حتى تثبت براءتها" أي عليه أن يشك في أمانة وصحة الأخبار التي تتضمنها كل وثيقة حتى يتمكن من الكشف عن كل مبالغة وتزييف أو تحريف فيها ، وفي هذه المرحلة يميز المؤرخون بين نوعين من النقد " الخارجي والباطني "
أ – النقد الخارجي أو المادي :
يتناول شكل الوثيقة الخارجي ومادتها حتى يتأكد من حقيقتها وأصلها إذ قد تكون الوثيقة التي تسقط بين يديه صورة محرفة للوثيقة الأصلية الحقيقية ، فإذا كانت هذه الوثيقة مثلا رسالة عليه أن يدرس الورق المستعمل ، والحبر والخط ، والأسلوب والإمضاء ... إلخ وفي هذا المجال يستعمل المؤرخ تقنيات وطرق علوم أخرى كالكيمياء وعلم الآثار ،وعلم الخط ....،إلخ ، فمن اللا منطقي مثلا أن يأخذ الباحث أو المؤرخ بوثيقة كتبت بالآلة الراقنة كشاهد حي على حادثة
وقعت في زمان لم يبلغ بعد لمستوى هذه التكنولوجيا ، وهذا يعني أن نوع الخط يكون موضوع نقد من قبل الباحث بغض النظر عن تفحص نوع المادة كنوع الورق او الحبر . وإذا كان هذا المصدر نقود أو سلاحا أو أوسمة وجب على المؤرخ تفحص نوع المعدن ، طبيعة او نوع المواد الكيمياوية إذا كان المصدر من الآثار الفنية أو القديمة .
النقد الباطني " الداخلي " :
يختبر مدى صحة مضمون الوثيقة وذلك بمقارنتها بوثائق أخرى ذات منابع مختلفة فيكشف عن وجه الاختلاف والاتفاق ثم يقوم بدراسة شخصية صاحبها قصد معرفة العوامل المختلفة التي قد تؤثر فيه وتدفعه إلى الكذب ، وقد حدد إبن خلدون في كتابه المقدمة أسباب كذب الراوي وحصرها فيما يلي :
- التشيع لآراء المذاهب " مناصرة قضية أو مذهب " فإن النفس إذا كانت على حال من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه ، وإذا استسلمت وتشيعت لرأي او نحلةٍ قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ن وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحص فتقع في قبول الكذب ونقله
- الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والترجيح .
- الذهول عن المقاصد " السهو ، التغافل والخروج عنه " فكثيرا من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين او سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه ن فيقع في الكذب ومنها توهم الصدق
- الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع " الخروج عن سياق الخبر " لأجل ما يداخلها من التلبس والتصنيع فينقلها المخبر كما رآها وهي التصنع على غير الحق في نفسه .
- التقرب إلى أصحاب التجلة والمراتب " أصحاب الجاه والاعتبار " بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك ، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة .
- الجهل بطبائع الأحوال العمراني ، فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته يعرض له من أحواله ، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على الصدق من الكذب .
وفي هذه المرحلة من النقد يتحول المؤرخ إلى خبير نفسي يثبت درجة مصداقية صاحب الوثيقة ومدى اطلاعه على الأخبار والمنابع التي استقاها منها .
03 – المرحلة التركيبية للحادثة التاريخية :
بعد الانتهاء من التدقيق والتمحيص للمصادر عن طريق النقد يلجأ المؤرخ بعد هذا إلى محاولة تركيب الأحداث ترتيبا مكانيا و زمانيا وتنسيقها مع مراعات العلاقة القائمة بينها لآن الأحداث المشتة المنعزلة لا تعطينا علما تاريخيا وإذا ما وجد في ترتيبها بعض الفجوات أو أحداث تاريخية غير موجودة يلجأ إلى ملئها بافتراضاته واستنتاجاته الخاصة المستوحاة من الحقائق التي تحدثت عنها تلك الوثائق ، وعليه في الأخير أن يقيم الحادثة وأن يبرز مدى أهميتها وتأثيرها في مجرى الحياة الاجتماعية .
* صحيح أن هذه الدراسة المقارن التي أكد عليها ابن خلدون من شأنها أن تحقق الموضوعية ولو بنسبة معينة إلاّ أن هذا لا يعني تجسيد التجربة العلمية ما دامت الظاهرة التاريخية تمتاز بخصائص مخالفة للظاهرة الطبيعية ، كما أن اعتماد المؤرخ على الفرض لملأ الفجوات يجعل التفسير ذاتي وقد تنحرف الحادثة عن المعنى المقصود لها ، وهذا ما من شأنه أن يؤدي إلى انحراف الحادثة التاريخية عن مقاصدها وبالتالي تحريفها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق