الفلسفة ليست معرفة وإنما هي تفكير حول المعرفة
كانت الفلسفة في القديم تضم جميع العلوم , وكان على الفيلسوف أن يلم بجميع علوم عصره , وهكذا رأينا أن ( أفلاطون ) مثلا اهتم بقضايا الميتافيزيقيا في نفس الوقت الذي اهتم فيه بالرياضيات والفلك والاجتماع والسياسة و الأخلاق ... الخ . وكذلك الأمر بالنسبة لغيره من الفلاسفة وحتى عهد قريب كان ينظر إلى الفلسفة على أنها تشمل جميع العلوم الأخرى فـ ( ديكارت ) مثلا شبه الفلسفة بالشجرة جذورها الميتافيزيقيا , وجذعها الفيزياء وغصونها الميكانيكا والطب و الأخلاق .
إلا أن عملية انفصال العلوم على الفلسفة تمت بصورة تدريجية إلى أن استقلت هذه العلوم بعد أن تحدد موضوعها ومنهجها .
ولم تحدث عملية الانفصال في فترة واحدة من تاريخ الفكر البشري ، بحيث أن الفكر كان يشهد من حين لآخر انفصال علم من العلوم عن الفلسفة , حتى وصلنا إلى الوضعية التي نحن عليها الآن . فابتداء من ( أوقليدوس ) و ( أرخميدس ) اعتبرت الرياضيات منفصلة عن الفلسفة ، وكذلك الفيزياء عرفت هذا الاستقلال في القرن السابع عشر على يد ( غاليلي ) و( نيوتن ) ، والكيمياء في القرن الثامن عشر على يد ( لافوا زيه ) ، والبيولوجيا على يد ( لامارك ) و( كلودبرنار ) ، ومنذ منتصف القرن الماضي بدأت عملية استقلال السوسيولوجيا أو علم الاجتماع على يد ( أوغست كونت ) و ( سان سيمون ) . وتلتها عملية استقلال السيكولوجيا أو علم النفس .
وتعتبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا العلمان اللذان استقلا حديثا عن الفلسفة بعد أن تحدد موضوعهما ومنهجهما , وبعد أن أصبح بالإمكان إجراء التجربة في هذين العلمين .
ولكن إذا استقلت جميع العلوم أي المعارف عن الفلسفة فهل هذا يعني أنه لم يعد للفلسفة موضوع ؟ إن الفلسفة لم يعد ينظر إليها في العصر الحديث على أنها حصيلة المعارف السائدة في عصر من العصور ، وإنما أصبحت طريقة في التفكير وفي تناول الموضوعات . لذلك يمكن للفلسفة أن تستخدم حقائق العلم لتطرح سؤالها حول قيمة هذه الحقائق . ولو كانت الفلسفة حقائق ثابتة يمكن أن نتعلمها لتحولت إلى علم ، لذا قيل بأنه لا توجد فلسفة يمكن أن نتعلمها وكل ما يمكن أن نتعلمه هو كيف نتفلسف .
ونحن عندما نتفلسف لا نضيف معرفة جديدة إلى معارفنا ، وإنما نقف من معارفنا موقفا نقديا فنتساءل عن حقيقة ما نعرف وقيمته وحدوده . وقديما كان ( سقراط ) يدرك أن الفلسفة لا تضيف إلى معلوماتنا شيئا جديدا وإنما تزيد عمقا ما لدينا من معلومات ، لذا استخدم سقراط طريقته المشهورة في الجدل والتي أطلق عليها اسم << التوليد >> أي توليد الأفكار من الذاكرة ففي محاورة << مينون >>لـ ( أفلاطون ) يسأل سقراط ( مينون ) السؤال ويقول : << ما هو تعريف الفضيلة >> ؟ ويستسهل ( مينون) السؤال ويقول : << إن الفضيلة هي أن يستطيع الإنسان أن يأمر أو يوجه الآخرين >> .
ويعترض ( سقراط ) على هذا الجواب قائلا بأن الطفل يمكن أن يكون فاضلا وكذلك العبد لكنهما لا يأمران الآخرين .
ويجيب ( مينون ) ، ثم يعترض عليه ( سقراط ) ... وهكذا إلى أن يصل ( مينون ) بنفسه إلى التعريف الصحيح للفضيلة .
وهكذا فان (سقراط ) ولد تعريف الفضيلة من إجابات ( مينون) . إذن إن مادة التفكير في حوار ( سقراط ) و ( مينون )
هي المعرفة التي يتوفر عليها ( مينون ) نفسه . فـ ( سقراط) يتفلسف ولكن موضوع فلسفته في الحوار المذكور هو معرفة
( مينون ) السابقة . وهذا دليل على أن الفلسفة ليست معرفة و إنما هي تفكير حول المعرفة .
وإذا ما استعرضنا الفلسفات الحديثة رأينا أن هذه الفلسفات قد تخلت عن تقديم << منظومات >> فلسفية متكاملة كما كانت تفعل في الماضي لترضى بأن تكون تفكيرا حول مختلف المعارف الإنسانية. لذا يقول ( برونشفيك ) وهو من الفلاسفة المحدثين بأن الفلسفة ليست محاولة للزيادة من << كم >> المعرفة الإنسانية وإنما هي تفكير <<كيف >> هذه المعرفة , ويقصد ( بر ونشفيك ) من قوله هذا بأن الفلسفة ليست مطالبة بأن تزيد من معارفنا كما تفعل العلوم الأخرى وإنما هي مطالبة بأن تتساءل عن قيمة معارفنا . وهذا التساؤل قد يؤدي إلى إعادة النظر في معارفنا وإلى حذف بعضها . وقد أخذ بهذا الموقف الفيلسوف الألماني
( كانط ) الذي يعتبر موقفه نقطة تحول في الفلسفة الحديثة . يرى ( كانط ) بأن علينا قبل كل شيء أن نحدد مدى طاقة تفكيرنا ونتساءل فيما إذا كان بإمكان العقل البشري أن يدرك جميع الموضوعات وما هي حدود هذا العقل . وينتهي ( كانط ) إلى أن العقل لا يدرك إلا ما هو محدد في الزمان والمكان وذلك بعد قسم الموضوعات إلى قسمين :: << الظواهر >> , وهي ما يخضع للزمان والمكان ، و << النومين >> أو الأشياء في ذاتها , وهي ما لا يخضع للزمان والمكان أي موضوعات الميتافيزيقيا . ويقول أن العقل البشري ركب بطريقة لا يدرك معها إلا ما هو خاضع للزمان والمكان أي الظواهر ، أما إذا حاول العقل أن يدرك موضوعات << النومين >> أو الحقائق المطلقة فإنه سيقع في << المعارضات >> أي يبرهن برهنة متساوية في اليقين على قضايا متناقصة في نفس الوقت .
وقد يعترض البعض فيقول : إذا كانت الفلسفة هي مجرد تفكير حول المعرفة وليست معرفة حقيقة فهذا يعني أنها ستبقى دائما نسبية لأنها ستظل دائما مرتبطة بالمعرفة التي تتغير باستمرار . إن هذا الاعتراض لا يضر الفلسفة في شيء ، بل يمكن اعتباره دليلا على حيويتها ، إذ كلما تجددت المعارف كلما تجددت الفلسفة . والعلم في تقدم ويفتح مجالات جديدة للفلسفة ولا يقضي عليها ، بل على العكس من ذلك إنه يتيح للفلسفة أن تجدد في طرح قضاياها ويسمح لها بطرح قضايا جديدة .
لهذا قيل << إن الفلسفة تبدأ حيث ينتهي العلم >> ، بمعنى أن العلم يقرر الحقائق الجزئية و تأتي الفلسفة لتنطلق من هذه الحقائق وتجعلها موضع تساؤل ، أي أن الفلسفة لا تضيف حقائق جديدة أو معارف جديدة كالعلم ، وإنما تفكر في هذه الحقائق وتحدد مدى قيمتها . وهكذا يبدو واضحا أن الفلسفة ليست علما أو معرفة وإنما هي تفكير حول العلم أو حول المعرفة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق